طاقة الاندماج.. قرن من العبقرية والمغالاة
حقق علماء أميركيون في مختبر «لورانس ليفرمور» الوطني الأسبوع الماضي إنجازاً في تطوير طاقة الاندماج النظيف طال التشوق إليه.
ولأول مرة، تجاوزت كمية الطاقة الناتجة عن تفاعل الاندماج الطاقة اللازمة لإنتاجها. واضطلعت الصحافة بواجبها في نقل الأخبار، لكن الحفاوة كانت أقل خارج الدوائر العلمية. فما زال الاندماج، لمعظم الناس حلماً مستقبلياً، يلوح قريباً في الأفق لكنه لا يتحقق أبداً. وهناك أسباب للشك: فقلة من المساعي العلمية تعرقلها طرق كثيرة مسدودة وافتراضات باطلة. لكن هذا أعمانا عن حقيقة أنه على الرغم من خيبات الأمل، أحرز العلماء تقدماً بطيئاً لكن مطرداً في الاندماج لفترة أطول بكثير مما يدركه كثير من الناس.
وبدأت فكرة الاندماج في الظهور خلال ورقة بحثية قدمها عالم الفيزياء الفلكية البريطاني آرثر إدينجتون في مؤتمر عُقد عام 1920، الذي اقتحم مغامرة الإجابة عن السؤال القديم: كيف تولد نجوم مثل الشمس الطاقة؟ وتكهن بأن الضغط الهائل داخل النجوم يدمج ذرات الهيدروجين لينتج عنه الهيليوم. ويحوّل هذا «الاندماج» بعض المادة الأصلية إلى طاقة خام. وقال إدينجتون، إن «الطاقة الذرية الثانوية للنجوم... تُستخدم بحرية للحفاظ على أفرانها الكبيرة».
واعترف إدينجتون لمستمعيه بأنه كان يطرح فرضية مرسلة بشكل أو بآخر. لكن كل ما قاله في ذاك اليوم أثبت أنه دقيق بشكل غريب، بما في ذلك تحذيره من أن السيطرة على هذه القوة الكامنة يمكن استخدامها لصالح الجنس البشري «أو انتحاره». وفي ثلاثينيات القرن الماضي، بدأ الكيميائي «إرنست راذرفورد» واثنان من معاونيه في إجراء تجارب باستخدام نظير ثقيل للهيدروجين يُعرف باسم الديوتيريوم.
وفي عام 1934، قام الفريق بتجربة ارتطام لذرات الديوتيريوم معاً، وتحويل النظير إلى هيليوم وإنتاج، تزامناً، ما وصفوه بأنه «تأثير هائل» يتمثل في انفجار للطاقة. وكان هذا اندماجاً في صورة مصغرة. وبعد أربع سنوات، اكتشف الفيزيائي الألماني «هانز بيته» التسلسل الدقيق دون الذري للأحداث التي تدعم هذه العملية.
وفي العام نفسه، قرأ عالمان شابان مقال «بيته» حول هذا الموضوع وقررا وضع أفكاره موضع التنفيذ. وعمل الثنائي غريب الأطوار، «آرثر كانترويتز» و«إيستمان جاكوبس»، في منشأة أبحاث حكومية تركز على أداء الطائرات. ولم يكن لبناء مفاعل الاندماج أي علاقة بعملهما، لذلك أطلقا على مبتكرهما اسم «معرقل الانتشار»، وهو وصف مبهم، لكنه طنان يمنع رؤساءهما من مطاردتهم بكثرة الأسئلة. واحتوى تصميمهما الذي كان بشيراً بالتطورات اللاحقة على كعكة معدنية، أو «طارة»، مبطنة بمغناطيس مصمم لاحتواء التفاعل والتحكم فيه.
ولم يكن الليزر قد اُكتشف بعد، لذا اختارا موجات الراديو لتسخين الهيدروجين بدرجة عالية. واستهلك هذا طاقة كثيرة لدرجة أنهما اضطرا إلى إجراء تجاربهما ليلاً تجنباً لانهيار شبكة الكهرباء.
وفي النهاية، شغلا الطاقة ولم يحدث شيء. ولم يمضِ وقت طويل حتى انتبه رؤساؤهما للمشروع وأنهوه. وعلى الرغم من أن أحداً لم يدرك الأمر في ذلك الوقت، اقترب الثنائي بشدة من بناء أول مفاعل اندماجي، وإن يكن شابته بعض العيوب في هيكل الاحتواء. ولم يستأنف العلماء العمل على الاندماج إلا بعد الحرب العالمية الثانية، مدركين تماماً طبيعته التخمينية. وصمم جيمس توك، الفيزيائي البريطاني الذي أفنى جهده في العمل في مشروع مانهاتن، مفاعل اندماج مبكراً أطلق عليه اسم «بريهابسترون»، مشتقاً الاسم من كلمة «ربما Perhaps» الانجليزية؛ لأنه «ربما ينجح وربما لا».
وكانت الحلقة الأقل إمتاعاً هي التي تساعد في تفسير الشكوك القائمة منذ فترة طويلة والتي تحوم حول التكنولوجيا الجديدة. وفي أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، قام دكتاتور الأرجنتين الشعبوي، خوان دومينجو بيرون، بتمويل بحث اندماج لعالم نمساوي مغمور يُدعى رونالد ريختر. وفي عام 1951، أعلن بيرون بفخر أن ريختر، صاحب العلاقات الوثيقة بالنازيين السابقين، أنشأ أول مفاعل اندماجي في العالم. وكشف التدقيق اللاحق عن عيب أساسي، ما لم يكن احتيالاً جوهرياً، في بحث ريختر. لكن في العام التالي، حدث تطوران أكدا مسوغات عدم تجاهل الاندماج.
وظهرت أولاً أنباء عن تفجير الولايات المتحدة أول قنبلة هيدروجينية- فعلياً في مفاعل اندماج خرج عن السيطرة- مما أدى إلى إحياء مشكلة انتحار الجنس البشري التي أشار إليها إدينجتون في البداية. ومما لا يقل أهمية من ذلك، عمل الفيزيائي النظري ليمان سبيتزر في جامعة برينستون حول كيفية التحكم في الغاز شديد الحرارة، أو البلازما، في قلب مفاعل الاندماج. وهذه الحالة من المادة تشبه العربدة دون الذرية، حيث تتزاوج فيها، بلا رادع، النوايا الذرية والإلكترونات التي كانت في السابق أحادية الزوج. ومن أجل احتواء الفوضى، رسم سبيتزر جهازاً على شكل رقم ثمانية أطلق عليه اسم ستيلاريتور. وكان الفيزيائي شغوفاً بتسلق الجبال، وأطلق اسم مشروع بحثه «ماترهورن» على قصة تسلق طويلة وشاقة توقعها في أبحاث الاندماج.
وخلال الخمسينيات من القرن الماضي، أقام سبيتزر ومعاونوه سلسلة من النماذج الأولية شكلت قفزة عملاقة إلى الأمام. وفي الوقت نفسه، طورت مجموعة من الفيزيائيين في الاتحاد السوفييتي بقيادة أندريه ساخاروف وإيجور تام نموذجهم الخاص المعروف باسم «توكاماك»، وهو اختصار روسي يشير إلى كعكة أو طارة مغناطيسية عملاقة. ومن ثم بدأت مرحلة جديدة في أبحاث الاندماج بنى خلالها العلماء أجهزة «ستلايتور» و«توكاماك» أكبر من أي وقت مضى. ومنذ أواخر الخمسينيات، انتقل الاندماج من المفهوم النظري الخيالي إلى شيء ملموس. ولسوء الحظ، دفعت هذه التطورات أيضاً المروجين مفرطي الحماس إلى أن يسبقوا الواقع ويتخيلوا مستقبلاً تسوده طاقه بلا حدود وغير مكلفة.
وتجلى هذا النمط النموذجي في مقال لاهث الحماس في مجلة «بيبيولار ميكانكس» عام 1959، بعنوان «طاقة الاندماج في عالم الغد»، متنبئاً بأنه «قد يحل في وقت أقرب مما تعتقد!» وثبت أن هذه المزايدة ضارة وغير واقعية. وأصابت خيبة الأمل المتصاعدة كثيرين من المعلقين منذ الستينيات. وعلى الرغم من أن نقص الطاقة في السبعينيات أدى إلى مزيد من التمويل وتجدد الآمال، لكن الفشل كان مصيرها مما أذكى التشاؤم.
وطغى كل هذا الهرج على حقيقة أن الفرق العلمية حول العالم واصلت إحراز تقدم بطيء لكن مطرد في تحويل الاندماج إلى حقيقة واقعة، وحلت تدريجياً التحديات التقنية المرتبطة بالاحتواء مع إنتاج دفعات أكبر من الطاقة.
وهذه التطورات الجزئية التي لا تلفت النظر عند النظر إليها منفردة، طغت عليها حالات الفشل والاحتيال مثل الجدل سيئ السمعة حول «الاندماج البارد» عام 1989 حين أدعى باحثان خطأ أنهما ابتكرا تفاعل اندماج مستقراً في درجة حرارة الغرفة. وأسعد المتشككون في الاندماج أن يشيروا إلى أن عقوداً من البحث لم تفلح قط في تحقيق ما يسمى «مكاسب طاقة صافية». وفي كل مرة يطلق فيه الباحثون نظائر الهيدروجين في حالة هياج، ينتهى بهم الأمر دوما إلى الحصول على طاقة أقل مما استخدموه في البداية. وهذا هو سبب الأهمية الشديدة لإعلان هذا الأسبوع.
ولا يعني هذا أن استعمال طاقة الاندماج على نطاق اقتصادي بات وشيكاً. لكن بعد عدة عقود من المحاولة، بلغ الباحثون أخيرًا مرحلة محورية في سعيهم لتطوير قوة الاندماج، مما جعل العالم أقرب إلى حد كبير من الرؤية التي أوضحها آرثر إدينجتون لأول مرة منذ أكثر من قرن.
أستاذ التاريخ بجامعة جورجيا.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنينج آند سينديكيشن»